إن مراجعة القرارات الصادرة منذ عام 2022 لم تعد مجرد خطوة إدارية عابرة بل تحولت إلى لحظة فارقة في مسار الدولة إذ وضعت أعلى هرم السلطة في دائرة المساءلة لأول مرة وكشفت المستور الذي طالما أُدير في الخفاء بعيداً عن أعين الشعب. لم يكن من المعتاد في تاريخ أي دولة أن تخضع قرارات الرئاسة للمراجعة بهذا الشكل لكن ما جرى يعكس تحولا عميقا في وعي القيادة وإدراكها لخطورة الاستمرار في الصمت أمام عبث القرارات الانتهازية التي أرهقت المواطنين وأغرقتهم في أزمات لا تنتهي.
لقد جاءت قرارات الرئيس عيدروس الزبيدي الأخيرة بعد صبر طويل ومدروس صبر لم يكن ضعفاً ولا ترددا بل حكمة ورؤية بعيدة المدى. ومن يستهين بهذا الصبر يجهل أن ما تحقق اليوم هو رسالة واضحة للعالم أجمع وللدول الإقليمية وللخصوم  على وجه الخصوص أن الرهان على فشل مشروع الجنوب رهان خاسر. فكما استطاع الرئيس اختراق اللوائح والقوانين الجامدة وإصدار قرارات جريئة كشفت المستور وأعادت ضبط البوصلة فإنه قادر في اللحظة المناسبة أن يعلن ميلاد دولة الجنوب دولة مؤسسات راسخة تقوم على الشفافية والمساءلة والحوكمة الرشيدة بعيداً عن العشوائية التي أثقلت كاهل الناس وأضعفت مؤسسات الدولة.
ما يجري اليوم هو أكثر من مراجعة لقرارات إنه إعلان ضمني بأن لا قرار أكبر من الوطن ولا سلطة أسمى من المصلحة العامة. القرارات الأخيرة وضعت الرئاسة في زاوية ضيقة لكنها في المقابل فتحت الباب أمام مرحلة جديدة مرحلة عنوانها الصراحة مع الذات والمكاشفة مع الشعب، وإعادة بناء الثقة المفقودة. نعم الطريق شاق والتحديات جسيمة، لكن الفرصة اليوم مواتية لإعادة صياغة المشروع الجنوبي على أسس صلبة لتتحول طموحات الناس إلى واقع ملموس تُحكمه مؤسسات لا أشخاص وتديره الشفافية لا المصالح الضيقة.
إن التاريخ لا يصنع بالمجاملات ولا بالتستر على الأخطاء بل بالمواجهة الشجاعة والقرارات الجريئة. وهذا ما فعله الرئيس عيدروس في لحظة مفصلية حين كسر حاجز الصمت وأخرج ما كان يدار خلف الكواليس إلى العلن مؤكدا أن الصبر لم يكن سوى مقدمة للحسم، وأن الحسم لم يكن سوى تمهيد لبناء الدولة القادمة. وما بين المراجعة وكشف المستور وما بين الصبر واتخاذ القرار، يرتسم أمامنا مشهد جنوبي جديد يقترب يوما بعد يوم من إعلان دولته دولة المؤسسات والشفافية والمحاسبة دولة تبنى على الحق لا على العشوائية.
*عضو مجلس المستشارين - عضو الفريق الرقابة والتوجية