
في ظل عودة التعهّدات الإسرائيلية بإزالة خطر الحوثيين، يتزايد رهان الجماعة على استراتيجيتها التقليدية المعتمدة على الجغرافية اليمنية الوعرة، في تحصين قياداتها العليا من أي اختراقات محتملة، بوصفها العامل الحاسم في معادلة الصراع.
والأحد الماضي، توعّد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بـ"فعل كل ما يلزم لإزالة التهديد الكبير" الذي يمثّله الحوثيون على بلاده، مع استمرار "التزامهم بما يسمونه خطة تدمير إسرائيل، وقدرتهم الذاتية على إنتاج منظومات باليستية وأسلحة أخرى، وإمكانية تطورهم مع الزمن، بالتنسيق مع إيران".
في المقابل، أكد زعيم الحوثيين، عبدالملك الحوثي، في خطاب تلفزيوني أمس الثلاثاء، أن جماعته "مقبلة حتما على جولة جديدة من المواجهة مع العدو الإسرائيلي".
وقال إن قواته خرجت من الجولات السابقة "أكبر قوة على مستوى القدرات العسكرية والتدريب والتأهيل، وأكثر استعدادا بالتجربة في التعامل مع التقنيات والتكتيكات الغربية".
احترازات أمنية
وطبقا لمصادر عسكرية يمنية، فإن التهديدات الإسرائيلية المتكررة باستهداف قيادات الحوثيين الرفيعة، بما فيها عبدالملك الحوثي، أجبرت الجماعة على إعادة هيكلة دوائرها الأمنية الضيقة المخصصة لحماية الصف الأول من القيادات، وتشديد إجراءاتها الأمنية الاحترازية.
وتزامن ذلك مع تصاعد الاختراقات النوعية الأخيرة المتمثلة في استهداف الحكومة وعملية اغتيال رئيس هيئة أركان الحوثيين، محمد عبدالكريم الغماري، وسلسلة طويلة من الضربات التي استهدفت موانئ الحديدة ومطار صنعاء والعديد من المنشآت الاقتصادية والخدمية.
وقالت المصادر لـ"إرم نيوز"، إن "جهاز أمن الثورة" المستحدث أخيرا والذي يشرف عليه زعيم الحوثيين شخصيا، ومعه كبار قادة جهاز "الأمن الوقائي" التابع لـ"المجلس الجهادي" لدى الجماعة، أجروا تغييرات واسعة في تركيبة وبينة الوحدة المكلّفة بحماية عبدالملك الحوثي، إلى جانب الوحدات الأخرى الخاصة بتأمين القيادات الكبرى.
وإلى جانب هذه التغييرات، عزل الحوثيون وحدات حماية القيادات الرفيعة عن التواصل مع بقية دوائر المنظومة الأمنية، وقيّدوا استخدامها لشبكات الاتصال، كما فرضوا إجراءات معقّدة للتنقل بين مقرّات الإقامة السرية والمنشآت تحت الأرضية المحصّنة، بهدف منع حدوث أي اختراقات على المستوى التقني أو الاستخباراتي البشري، بحسب المصادر.
تحوّل جديد
ويرى المحلل العسكري، العقيد محسن الخضر، أن تحوّل نظرة تل أبيب تجاه الحوثيين، باعتبارهم تهديدا استراتيجيا طويل المدى، وليس مجرد ورقة ضغط في الصراع الإقليمي، مؤشر على حصولها على معلومات استخباراتية قيّمة، وتعاظم رغبتها الجادّة في تعطيل الجماعة وقدرتها العسكرية، بموازاة حاجة حكومة نتنياهو لصراع جديد وواسع في المنطقة، بعد وقف النار في غزة، لاستعادة التوازن الداخلي".
وقال الخضر في حديثه لـ"إرم نيوز"، إن آخر الضربات الإسرائيلية، كشفت عن تطوّر مؤثر في قدراتها الاستخبارية، "وبالتالي قد نشهد خلال المرحلة المقبلة مستويات متقدمة وغير مسبوقة من العمليات، في ظل تحوّل التعاطي مع تهديدات الحوثيين".
وبيّن أن اعتماد الحوثيين على التضاريس القاسية والكهوف والخنادق المحصّنة تحت الأرض، في تأمين قياداتهم ومنشآتهم العسكرية الاستراتيجية، لن يكون كافيا لتجنّب مصير قيادات حزب الله اللبناني وقدراته الصاروخية، في ظل قدرات إسرائيل العسكرية وتفوّقها التكنولوجي وسعيها المستمر للعثور على ثغرات وتحقيق اختراقات.
ومع اندلاع حروبهم ضد الدولة اليمنية في العام 2004، بمحافظة صعدة المعروفة بتضاريسها الجبلية الوعرة، بدأ الحوثيون في استخدام الكهوف الطبيعية وتطويرها واستحداث شبكات أنفاق فيها، لاستخدامها كملاجئ ومخابئ سرّية ومراكز قيادة وسيطرة لإدارة المعارك.
وعقب انقلاب الجماعة على الدولة في العام 2015، توسّع نشاط تشييد العشرات من المنشآت الأرضية المتكاملة في عدد من محافظات البلاد، بإشراف ودعم هندسي من خبراء الحرس الثوري الإيراني المتواجدين في الداخل اليمني.
ويعتقد الخبراء أن منشآت الحوثيين المحصّنة في بطون الجبال، مكنتهم طوال الفترات الماضية من الصمود والمحافظة على جزء كبير من قدراتهم العسكرية وبنيتهم القيادية العقائدية، على الرغم من الحرب الداخلية والعمليات الأمريكية والإسرائيلية المتوالية.
حصانة غير مطلقة
وقال محلل الشؤون الأمنية، عاصم المجاهد، إن اليمن يمثّل بيئة استثنائية صعبة لأي جهة استخباراتية، ليس فقط بسبب التضاريس والجغرافيا وبنية المجتمع والقبيلة التي تجعل من الصعب اختراقه، "وإنما أيضا بسبب شبكات الكهوف والخنادق والأنفاق التي بنتها الجماعة على مدى سنوات".
وأضاف المجاهد لـ"إرم نيوز"، أن هذه البنى ليست مجرد ملاجئ، "بل هي منظومات تكتيكية متكاملة، تسمح بتحريك الأشخاص والمعدات بسرعة داخل مساحة محدودة، مع تقليل فرص التعرّض للرصد البصري أو الطائرات المسيّرة أو الأقمار الصناعية".
وبرأيه، فإن التأثير المباشر لهذه الشبكات على معادلة الاستخبارات، هو أنها تخلق فراغا معلوماتيا يعقّد تحديد المواقع الدقيقة للمخازن وورش التصنيع، أو أماكن القيادات العليا، بما فيهم زعيم الجماعة "وهو ما يقلل من احتمالية وقوع ضربات دقيقة ناجحة كما حدث في بعض الحالات مع قادة آخرين في الإقليم".
وأشار إلى أن الأقمار الصناعية عالية الدقة والمسيّرات، لها حدود واضحة وقدرات محدودة، في بيئات جبلية معقّدة تحتوي على كهوف ومغارات ووديان، ومليئة بالممرات الضيقة والغطاء الجبلي والكثافة السكانية المنخفضة حول مثل هذه المخابئ "وبالتالي يتمكن القيادات من الاختفاء أو التنقل دون رصد مستمر".
وذكر المجاهد أن هذه الكهوف والأنفاق تمنح الحوثيين ميزة، "لكنها ليست حصانة مطلقة خصوصا مع تزايد قدرات الاستطلاع الدقيقة وتحليل البيانات الكبيرة التي يمكن أن تكشف أنماط الحركة أو مواقع الدعم اللوجستي".
وأوضح أن أي اختراق استخباراتي يعتمد على مزيج من المعلومات الميدانية التي تأتي من مصادر بشرية ومن مراقبة إلكترونية وتحليل سلوك، وليس فقط الاعتماد على التكنولوجيا البصرية.